أحمد عسيلي
انطلقت الأسبوع الماضي في مدينة حلب حملة بعنوان “حلب ست الكل”، تهدف، كما العديد من الحملات السابقة مثل “فداء لحماة” أو “أبشري حوران”، إلى جمع تبرعات مالية لدعم المحافظة والنهوض بواقعها الخدمي والعمراني، من حيث المبدأ، تبدو هذه المبادرات إيجابية، لأنها تقوم على إشراك المجتمع في مسار التعافي، وهو إشراك يبدو ضروريًا في بلد أنهكته 14 عامًا من الحرب، ولم تعد الدولة، بأجهزتها الحالية، قادرة وحدها على تحمّل عبء إعادة الإعمار بالسرعة المطلوبة، رغم أن ذلك يُفترض أن يكون من صميم وظيفتها.
فكرة إشراك الآخرين في مواجهة وضع معقد ليست غريبة عن الممارسة الإنسانية. في الطب، وخصوصًا في الطب النفسي، نلجأ أحيانًا إلى توسيع دائرة التدخل عندما تكون الحالة شديدة الصعوبة، فنُشرك العائلة أو المحيط، بل وأحيانًا هنا في فرنسا نشرك المحافظ أو قائد الشرطة في العملية العلاجية، وقد نضطر في حالات محددة إلى تجاوز مبدأ السرية الطبية ولو جزئيًا، لأن مصلحة الحالة تفرض ذلك، هذا الإجراء ليس ارتجاليًا، بل ممارسة معترف بها ومُقننة في فرنسا وفي كثير من دول العالم، كما هو الحال في بعض قطاعات الاقتصاد، والتعليم، وإدارة الأزمات العامة.
يمكن في هذا السياق استحضار مثال حملة التبرعات التي أُطلقت في فرنسا بعد الحريق الذي طال كاتدرائية نوتردام في باريس، حدث استثنائي تطلب موارد ضخمة لم تكن مدرجة ضمن الميزانية العامة، ورغم أن الدولة الفرنسية تحملت مسؤوليتها الكاملة عن الترميم، فُتحت حملة تبرعات بوصفها دعمًا إضافيًا ومؤقتًا، لا بديلًا عن الدور المؤسسي للدولة ولا تعويضًا عن غيابه.
أما في حالتنا السورية، فللدعم الأهلي تاريخيًا جذور راسخة في المجتمع، من خلال العمل الخيري ومساعدة الفئات الفقيرة، سواء عبر جمعيات ومنظمات أهلية، أو من خلال مبادرات فردية قادها رجال أعمال وأثرياء خصصوا جزءًا من أموالهم لدعم أبناء مناطقهم (وأحيانًا طوائفهم)، هذا النمط من التضامن لعب دورًا مهمًا في التخفيف من المعاناة، وكان في كثير من الأحيان استجابة أخلاقية لفراغ الدولة أو ضعفها.
لكن اللحظة الراهنة تختلف جذريًا عن سياقات الإغاثة التقليدية، نحن أمام مرحلة تأسيسية طويلة الأمد، لا تُعاد فيها ترميم الأبنية فقط، بل يُعاد تشكيل نمط العلاقة بين المجتمع، والمال، والسلطة. في مثل هذه المراحل، لا تكون المبادرات محايدة، ولا النتائج مؤقتة، ما يُسمح له بأن يترسّخ اليوم سيتحول لاحقًا إلى قاعدة يصعب تفكيكها.
من هنا، تبرز النقطة الأكثر حساسية: الشفافية، لم يعد السؤال متعلقًا بحسن النيّات، بل بالبنية، هل تُدفَع التبرعات المُعلنة فعلًا؟ كيف تُدار؟ أين تُصرف؟ ومن يقرر أولويات إنفاقها؟ في تجارب دولية أخرى، كانت هذه الأسئلة مطروحة علنًا، ومرفقة ببيانات وتقارير وآليات رقابة، أما في الحالة السورية، فالمشهد ضبابي إلى حد مقلق.
ليست المشكلة في أن الناس يتبرعون، بل في أن أحدًا لا يعرف متى يصبح التبرع سياسة عامة، ومتى يتحول الغموض إلى نمط مُعتمَد، في هذه المنطقة الرمادية، لا تتكون المشاريع بقدر ما تتشكل العادات الأخطر.
وإذا كانت السلطة ترى أن المرحلة الحالية انتقالية، وأن بناء المؤسسات يتم تدريجيًا، فيمكن مناقشة هذا الطرح والاختلاف أو الاتفاق معه سياسيًا، لكن الغموض في آليات العمل والإنفاق ليس سمة انتقالية، بل خلل بنيوي، لأن المراحل التأسيسية تحديدًا تحتاج إلى وضوح أعلى، لا إلى تعليق القواعد.
من منظور نفسي، يمكن قراءة ما يجري بوصفه محاولة جماعية لاستعادة الإحساس بالفاعلية بعد سنوات طويلة من العجز، غير أن هذه الفاعلية تبقى في الواقع، رمزية أكثر منها حقيقية، لأن المجتمع لا يراقب الفعل ولا يتحكم بآليات القرار أو الصرف، ما يحدث أقرب إلى منح شعور بالمشاركة من دون امتلاك أدواتها.
يشبه الأمر ما نراه أحيانًا داخل العائلات حين يُشركون رجلًا أو امرأة متقدّمين بالسن في “اتخاذ القرار”، لا لأن القرار بيدهم فعليًا، بل كي لا يشعروا بفقدان مكانتهم، الجميع، في هذه الحالة، يكون مدركًا، بدرجات متفاوتة، أن المشاركة شكلية، وأن الفعل الحقيقي يجري في مكان آخر، والأخطر أن هذا الترتيب يقوم غالبًا على تواطؤ ضمني، العائلة تعرف، والفرد يعرف، لكن الطرفين يقبلان اللعبة لأنها تُخفف القلق وتُضفي دفئًا عاطفيًا، من دون أن تغير الواقع.
ما يُخشى هنا هو أن تتحول العلاقة بين السلطة والمجتمع في سوريا إلى هذا النموذج: مشاركة شكلية تُنتج إحساسًا زائفًا بالاندماج، مقابل تعليق السؤال الحقيقي عن القرار والمحاسبة، في هذه الحالة، لا نكون أمام شراكة في بناء الدولة، بل أمام طمأنة نفسية متبادلة، تُريح الجميع مؤقتًا، لكنها تُفرغ الفعل العام من معناه، وتحول الإعمار إلى طقس، لا إلى سياسة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى










0 تعليق