عنب بلدي – محمد ديب بظت
مع عودة عدد من المعامل في مدينة حلب إلى العمل خلال الفترة الماضية، عاد النقاش حول طبيعة هذه العودة وحدودها الاقتصادية.
فبين توصيفها كمؤشر على تعافٍ صناعي، وبين اعتبارها مجرد خطوة تشغيلية مؤقتة، تبرز الحاجة إلى قراءة أكثر دقة لما يجري على أرض الواقع، تضع إعادة تشغيل المعامل في سياقها الاقتصادي الصحيح، بعيدًا عن الخطابات المتفائلة أو السوداوية.
ظروف الحرب فرضت نمطًا مختلفًا من العمل، اقتصر في معظمه على إعادة إقلاع المعامل بشكل تشغيلي فقط، بهدف تمكين المعمل من تمويل نفسه بالحد الأدنى، وفق ما قاله الصناعي ورئيس لجنة العرقوب الصناعية، تيسير دركلت، في حديث إلى عنب بلدي.
واعتبر أن الهدف الطبيعي للقطاع الصناعي في الظروف المستقرة يكون تشغيليًا واستثماريًا في آن واحد.
وأضاف دركلت أن هذا النموذج لم ينجح في جميع الحالات، إذ اضطر بعض الصناعيين إلى الاعتماد على مدخراتهم الشخصية للاستمرار، لافتًا إلى أنه لا يمكن الحديث حاليًا عن إعادة إعمار صناعي حقيقية، خاصة بالنسبة للصناعيين الذين بقوا داخل البلاد، في ظل إنهاكهم جراء سنوات الحرب الطويلة وتراجع حجم العمل.
يرى دركلت أن الاستثمار الصناعي الفعلي يتوقع أن يأتي من الصناعيين العائدين من الخارج، ممن راكموا رؤوس أموال وخبرات، ويمكن التعويل عليهم في مرحلة إعادة الإعمار.
وحول تحديث الآلات أو توسيع خطوط الإنتاج، أشار دركلت إلى وجود عوامل عدة تعوق ذلك، أبرزها عدم استقرار الطلب وضعف القدرة الشرائية، ما يجعل ضخ تكاليف إضافية في التحديث غير مجدٍ في الوقت الراهن.
وأضاف أن أي قرار بتحديث خطوط الإنتاج يرتبط بتحسن الواقع الاقتصادي المحلي وارتفاع مستوى الطلب، مؤكدًا أن الصناعيين لن يتأخروا عن ذلك في حال توفر الظروف المناسبة.
وبيّن دركلت أن الاعتماد الحالي يتركز على السوق المحلية، رغم محدودية الطلب، في حين يبقى التصدير ضعيفًا في الوقت الراهن.
كما لفت إلى أن الاعتمادات البنكية لم تُفعّل بعد، موضحًا أن رفع العقوبات حديث نسبيًا، وأن آليات التمويل لم تدخل حيز التنفيذ، ما يقيد حركة الاستيراد والتصدير.
سوريا خسرت خلال السنوات الماضية عددًا من أسواقها الخارجية، سواء لمصلحة دول أخرى نشطت بغياب المنتج السوري، أو لأسباب سياسية، بحسب دركلت، معربًا عن أمله بتجاوز هذه المرحلة، وأن يسهم ما يصدّر حاليًا في تقديم صورة عن قدرة الصناعة السورية على العمل.
مخاطرة “كبيرة”
عبد المعين بودقة، صاحب معمل للأقمشة، قال لعنب بلدي، إن المعمل يواجه اليوم تحديات إضافية غير مرتبطة فقط بقدم خطوط الإنتاج أو ارتفاع تكلفة الصيانة، بل بالمنافسة المتزايدة للبضائع الأجنبية في السوق المحلية.
وأضاف أن دخول منتجات مستوردة بأسعار أقل وأحيانًا جودة متقاربة يحد من قدرة المعمل على زيادة الإنتاج أو توسيع خطوطه، ويجعل أي تحديث أو تطوير استثماري مخاطرة كبيرة، وهذا ما حدث بالنسبة لصناعة الأحذية، إذ أغلق جزء كبير من المعامل بسبب البضائع الصينية.
وأضاف أن هذا الضغط يجعل من الصعب الحفاظ على العمالة الكاملة أو التوسع في الإنتاج، ويضع المعمل في وضعية الحفاظ على حد أدنى من الاستمرارية بدل التركيز على النمو.
ضعف القدرة الشرائية للمستهلك المحلي يزيد من هذه الصعوبة، ويضطر كثير من الناس لاختيار المنتجات الأرخص، حتى وإن كانت مستوردة، ما يقلل الطلب على المنتجات المحلية.
هذا الواقع يجعل السوق المحلية العمود الفقري لاستمرار المعمل، وأي مشروع للتصدير أو توسيع النشاط خارجيًا يواجه قيودًا شديدة بسبب ارتفاع تكاليف النقل، وفقدان الأسواق التقليدية التي كانت للمصانع السورية، بحسب بودقة.
وبيّن أن خطوط الإنتاج القديمة تضيف عبئًا إضافيًا، فهي تحتاج إلى صيانة مستمرة وتستهلك كميات كبيرة من الطاقة مقارنة بالآلات الحديثة، ما يزيد تكلفة الإنتاج ويحد من قدرة المعمل على المنافسة حتى ضمن السوق المحلية.
أي خطوة لتحديث المعدات لا يمكن اتخاذها إلا بعد ضمان استقرار الطلب، لأن ضخ أموال لتجديد خط إنتاج في ظل عدم قدرة المستهلك على شراء المزيد يمثل مخاطرة كبيرة قد تهدد استمرارية المعمل.
وذكر بودقة أن الاعتماد الحالي ينصب على تشغيل المعمل وفق الإمكانات المتاحة، وتلبية الاحتياجات الأساسية للسوق المحلية، مع مراقبة الأسعار والمنافسة الأجنبية، محاولًا الحفاظ على قدرة المعمل على الاستمرار.
الصناعيون يحتاجون في هذه المرحلة إلى بيئة اقتصادية مستقرة ولو جزئيًا، مع إمكانية الحصول على تمويل محدود، لتحسين خطوط الإنتاج تدريجيًا ومواجهة المنافسة الأجنبية بشكل أفضل، قال الصناعي بودقة.
وختم بالقول، إن المرحلة الحالية لا تسمح بخطط توسع كبيرة أو استثمارات شاملة، لكن الاستمرار في العمل اليومي، ومواجهة التحديات المرتبطة بالمنتجات الأجنبية، تعتبر الخطوة الأساسية للحفاظ على الصناعة المحلية على قيد الحياة، وتهيئة الأرضية تدريجيًا لأي تطوير أو توسيع مستقبلي عند تحسن الطلب والأسواق.
عامل يشغل آلة للحام الحديد في معمل للحديد بمنطقة العرقوب الصناعية بمدينة حلب- 2 تشرين الثاني 2025 (عنب بلدي)
مراحل متدرجة
النظر إلى واقع القطاع الصناعي السوري اليوم، يتطلب الابتعاد عن ثنائية التفاؤل المفرط أو التشاؤم القاتم، والاقتراب من منطق اقتصادي واقعي يراعي طبيعة الاقتصادات الخارجة من صدمات طويلة الأمد، وفق الخبير الاقتصادي عباس علي.
وقال علي، في حديث إلى عنب بلدي، إن التعافي في مثل هذه الحالات لا يبدأ بتحولات سريعة أو قفزات كبيرة، بل بمراحل متدرجة تهدف في بدايتها إلى استعادة الحد الأدنى من الوظائف الاقتصادية.
وبحسب علي، فإن ما يجري حاليًا يمكن توصيفه كمرحلة إعادة تفعيل للقدرات الإنتاجية المتاحة، أكثر من كونه تعافيًا صناعيًا مكتمل الأركان.
واعتبر أن هذه المرحلة لا تحمل بالضرورة دلالة سلبية، بل تمثل الخطوة الأولى المنطقية في أي مسار تعافٍ، إذ تسمح إعادة تشغيل المعامل القائمة بإعادة ربط العمالة بسوق العمل، وتنشيط شبكات التوريد المحلية، وتوفير السلع الأساسية للسوق الداخلية، ما يخفف الضغط على الاستيراد ويُبقي السيولة داخل الاقتصاد.
وأشار إلى أهمية التمييز بين مفهوم “الحركة الاقتصادية” و“النمو الاقتصادي”، موضحًا أن إعادة التشغيل تخلق حركة اقتصادية من خلال تشغيل العمال وشراء المواد الأولية وتدوير النقد، وهي حركة ضرورية بعد فترات الركود الطويلة، لكنها لا تعني بالضرورة تحقيق نمو اقتصادي بالمعنى التقليدي، الذي يتطلب رفع الإنتاجية وتوسيع الطاقة الإنتاجية وتحسين القيمة المضافة.
واعتبر علي أن السؤال الأساسي لا يتعلق بحداثة المعامل أو قدمها، بل بقدرتها على أداء وظيفة اقتصادية في المرحلة الحالية.
ولفت إلى أن المعامل القائمة، رغم محدودية إنتاجيتها، يمكن أن تؤدي دورًا في امتصاص البطالة وتوفير السلع ذات الطلب المستقر، إضافة إلى المساهمة في تثبيت الأسعار نسبيًا وتقليل الاعتماد على الخارج في السلع الأساسية.
في المقابل، شدد على أن هذه المعامل غير قادرة بمفردها على بناء دورة نمو طويلة الأمد، نظرًا إلى انخفاض إنتاجيتها وارتفاع تكاليفها وضعف قدرتها التنافسية خارجيًا، معتبرًا أن دورها يجب أن يفهم ضمن إطار انتقالي، لا كنقطة وصول نهائية.
وحول تركز النشاط الحالي في الصناعات الخفيفة والاستهلاكية، يرى علي أن هذا التوجه يعد خيارًا اقتصاديًا منطقيًا في ظل القيود التمويلية والبنيوية القائمة، نظرًا إلى سرعة دوران رأس المال وانخفاض تكلفة الدخول في هذا النوع من الصناعات.
إنتاج السلع الاستهلاكية الأساسية لا يعكس ضعفًا بحد ذاته، بل استجابة لطبيعة الطلب المحلي في المرحلة الراهنة، بحسب علي.
ويرى أن التحدي لا يكمن في هذا التركيز، بل في استمراره دون تطوير، مشيرًا إلى أن الصناعات الخفيفة يمكن أن تشكل قاعدة للانتقال نحو قيمة مضافة أعلى عبر تحسين الجودة والمعايير والتدرج نحو أسواق خارجية قريبة.
الانتقال من مرحلة إعادة التشغيل إلى إعادة الإعمار الصناعي لا يتطلب قفزات مفاجئة، بل يوفر شروطًا اقتصادية أساسية، في مقدمتها وضوح القواعد التشغيلية، واستقرار نسبي في الطاقة والبنية التحتية، ووجود أدوات تمويلية موجهة للتحديث الجزئي.
واعتبر أن الصناعة السورية تتحرك اليوم في منطقة وسطى طبيعية لاقتصاد خرج من أزمة عميقة، حيث لا يمكن الحديث عن تعافٍ كامل، ولا عن انهيار، بل عن مسار بطيء لإعادة بناء الوظيفة الاقتصادية تمهيدًا لمرحلة أكثر تقدمًا.








0 تعليق