عنب بلدي تفتح ملف التشابكات المالية في سوريا

عنب بلدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عنب بلدي – وسيم العدوي

منذ عقود، تراكمت التشابكات المالية بين الوزارات والمؤسسات العامة في سوريا لتتحول إلى أحد أعقد الملفات الاقتصادية والإدارية، إلى جانب ملفات الفساد الضخمة التي يتواصل كشفها تباعًا من قبل الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية.

ولم تكن هذه التشابكات مجرد أرقام متداخلة في دفاتر المحاسبة، بل شكّلت انعكاسًا لخلل هيكلي في إدارة المال العام، وغياب المساءلة، وتداخل الديون بين الجهات الحكومية، ومع مرور الزمن، أصبحت هذه الأزمة بؤرة للفساد وتعطيل المشاريع، وأحد أبرز التحديات أمام الحكومة الانتقالية السورية في سعيها لإعادة بناء الاقتصاد.

وزارة المالية السورية امتنعت عن الإجابة عن أسئلة وجهتها عنب بلدي إليها، لمعرفة كيف عالجت ملف التشابكات المالية بين الجهات الحكومية زمن النظام السابق، وهل تم إسقاط هذه الديون (التي قدّر حجمها مصدر محاسبي سوري عام 2023، وفقًا لما نشرته صحيفة محلية آنذاك، بعشرة تريليونات ليرة سورية)، وهل تم اعتبارها خسائر أسوة بما فعله مصرف سوريا المركزي مع الودائع المجمدة للمصارف السورية في المصارف اللبنانية.

توجهت عنب بأسئلتها إلى أحد المديرين المسؤولين بالوزارة ذاتها (في اتصال هاتفي رفض خلاله الكشف عن اسمه لأسباب إدارية)، وأوضح أن قضية التشابكات المالية تتعدى عمل وزارة المالية، لأنها تتعلق بعمل كل الجهات والوزارات والمؤسسات التابعة لها.

وقال المسؤول، إن “تخلف الجهات العامة عن سداد الديون المترتبة عليها فيما بينها يمثل وجهًا من أوجه الفساد، وينبغي للجهات الرقابية الداخلية في كل وزارة التحقيق بشأنه، ثم إحالة الملفات إلى الأجهزة الرقابية العليا المعنية”.

وبرر المدير ذاته تكتم المعنيين في وزارة المالية بشأن التشابكات المالية، بعدم الرغبة في فتح ملفات ربما تعوق عمل الوزارة، وتركيزها على حل القضايا ذات الأهمية القصوى المتعلقة بعملها، وعلى رأسها “تحسين مستوى الرواتب والأجور للعاملين في الدولة والمتقاعدين، وإصلاح النظام الضريبي والمحاسبي، وقطاع التأمين، وإنهاء حالة التضارب في الصلاحيات والاختصاصات بين المالية ومصرف سوريا المركزي بشأن العلاقة مع المصارف العامة” وغير ذلك.

جذور الأزمة ومظاهر التشابكات

يرى الخبير والمستشار الاقتصادي السوري مهند الزنبركجي، أن التشابكات المالية ليست وليدة اللحظة، بل نتاج تراكمات طويلة، فقد تكبدت مؤسسات القطاع العام خسائر حادة جعلتها عاجزة عن السداد، بينما غابت الرقابة والمساءلة، وتفاقم التقاعس الإداري.

ومع اندلاع الحرب وبدء الثورة السورية عام 2011، وفرض العقوبات الدولية على سوريا، دخلت المؤسسات الحكومية في حالة شلل شبه كامل، ما جعلها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية.

تتجلى أزمة الديون الحكومية السورية في صور متعددة، وفقًا للخبير ذاته المختص بإدارة الأزمات، أبرزها:

  • تشابكات خدمية، حيث تدين أغلب الجهات العامة إلى وزارات الكهرباء والموارد المائية والنفط والثروة المعدنية سابقًا (الطاقة حاليًا) والصناعة والتجارة الداخلية والاقتصاد سابقًا (الاقتصاد والصناعة حاليًا)، ولا تلتزم بسداد الفواتير، وثمن السلع، والخدمات، والأدوية.

ومثال ذلك وزارة الصحة “المدينة” لمصلحة جهات حكومية أخرى “دائنة” مثل وزارتي الاقتصاد والتجارة الخارجية والتجارة الداخلية وحماية المستهلك، ومعظم الديون ناجمة عن استيراد الأدوية، وتأمين “جعالات” الطعام في المستشفيات التابعة للوزارة.

  •  تشابكات تمويلية من قروض تمت استدانتها من المصارف الحكومية لتأسيس شركات عامة أثبتت خسارتها على مدى سنوات ولم يتم تسديد الديون المترتبة عليها.
  • تشابكات ضريبية نتيجة عجز وتقاعس شركات القطاع العام الإنتاجية عن سداد ضرائبها بانتظام إلى وزارة المالية عبر الهيئة العامة للضرائب والرسوم ومديرياتها.
  • تشابكات تأمينات، ناجمة عن عجز بعض شركات القطاع العام عن سداد التأمينات المترتبة على منشآتها وموظفيها إلى التأمينات الاجتماعية والمؤسسة العامة السورية للتأمين ومؤسسة التأمين والمعاشات.
  • تشابكات مخالفات مرورية، إذ كانت جميع الوزارات تدين إلى إدارة المرور، وذلك بالتغافل عن دفع مخالفات المرور للآليات التابعة لها.

وأوضح الخبير الزنبركجي أن هذه الأمثلة تكشف أن المشكلة ليست محاسبية فقط، بل هي انعكاس لخلل هيكلي في إدارة المال العام.

الأبعاد الاقتصادية

انعكست التشابكات المالية على الاقتصاد السوري بشكل مباشر، فقد أدى غياب أرقام دقيقة للدين العام إلى فقدان مصداقية الإدارات المالية الحكومية، بينما عطّل تراكم العجز الهائل الإنفاق الحكومي الاستثماري على المشاريع الجديدة.

كما أسهم ترحيل الأعباء المالية من سنة إلى أخرى في رفع معدلات التضخم بشكل تراكمي، وجعل فك هذه التشابكات أكثر صعوبة بعد دمج بعض الوزارات عقب سقوط النظام السابق.

وقال الخبير الاقتصادي السوري، إن الديون الحكومية نجم عنها:

  • خسائر حادة في العديد من مؤسسات وشركات القطاع العام، جعلتها غير قادرة على سداد أي من ديونها لعدة جهات حكومية أخرى.
  • غياب تام للمساءلة وضعف جهات الرقابة الداخلية في كل وزارة ومؤسسة، بالإضافة إلى غياب شبه كامل للأجهزة الرقابية والتفتيشية.
  • التقاعس والتغافل عن تسديد الديون الناتج عن عدم الانضباط المالي واللامبالاة في فترة ما قبل الحرب ولسنوات طويلة.
  • الحرب الطويلة والعقوبات الدولية التي استمرت أكثر من 14عامًا وأدت إلى شلل شبه تام في حركة المؤسسات والشركات والمعامل الحكومية، وبالتالي عجزها الكامل عن السداد.

وتبقى مخاطر استمرار هذه التشابكات دون تسوية جذرية ماثلة أمام الجميع لجهة الفساد المالي والفساد الإداري، بحسب الخبير السوري، نتيجة عدم وجود أي مساءلة من الجهات المختصة ذات الصلة كالهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية أو الجهات الأخرى المسؤولة عن متابعة شؤون مجلس الوزراء في الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة المالية.

أما تحويل الديون إلى ديون معدومة، فيؤكد الزنبركجي أنه سيسبب تضخمًا في العجز، وتراجع قدرة الدولة على إنجاز أي تخطيط لمشاريع مستقبلية أو تنفيذها، وبالتالي الوصول إلى شلل حكومي كامل.

معالجة التشابكات المالية

أكد الخبير الاقتصادي والاستشاري أن الحلول لهذا الملف الشائك تستوجب “مساءلة الوزراء، والمديرين العامين والماليين في الوزارات والشركات الذين كانوا على رأس عملهم خلال فترة حكم النظام السابق، والتحقيق في كيفية منحهم براءات ذمة عند انتهاء مدة عملهم مع الدولة، دون أي مدونات تسليم واستلام أصولًا بينهم وبين بدلائهم عن الأعمال الواجب تتمتها، والذمم المالية للمؤسسة (ما لها وما عليها) تجاه باقي الجهات الحكومية”.

ويضاف إلى ذلك ضرورة إجراء:

  • تسوية عامة من قبل وزارة المالية عبر الخزينة العامة بعد جرد شامل، ما أمكن، للذمم المترتبة لكل وزارة تجاه أخرى أو تجاه عدة وزارات.
  • إعادة هيكلة المؤسسات العامة الخاسرة ودمجها لتصبح شركات قابضة تدار بعقلية وآلية ورواتب الشركات القابضة العالمية، ولكن تبقى ملكيتها للدولة، وفي هذا الطرح فوائد كبيرة جدًا لخزينة الدولة وتوفير آلاف الوظائف.
  • تدقيق مالي داخلي شهري (Internal Audit) في الإدارات المالية لكل وزارة ومؤسسة شركة ومعمل.
  • تدقيق مالي خارجي (External Audit) على جميع الإيرادات والمصاريف والذمم في كل وزارة ومؤسسة وشركة أو معمل تابع للدولة.

دروس من التجارب الدولية

يرى الزنبركجي أن هناك عدة تجارب ناجحة في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا وهنغاريا، اللتين اعتمدتا على إصلاح مؤسسي مترافق مع إصلاح مالي يستند إلى الشفافية لفك التشابكات مع رقابة حكومية صارمة، وإجراءات مشددة لعدم تكرار هذه التشابكات مستقبلًا.

وتم أيضًا طرح حل آخر يتمثل بـ”التقاص” بين الوزارات والجهات الحكومية، ومن الجهات التي لديها تشابكات مالية التأمينات الاجتماعية ومؤسسات وشركات الكهرباء والمياه والهاتف والجهات العامة ذات الطابع الاقتصادي، التي يجب عليها تحويل جزء من أرباحها لوزارة المالية، وغيرها الكثير من الجهات العامة.

الإطار القانوني والتشريعي

وكانت السلطتان التشريعية والتنفيذية في سوريا زمن النظام السابق، أصدرتا عددًا من القوانين لمعالجة ملف التشابكات المالية أبرزها:

  • القانون رقم “29” لعام 2011، الذي نص على حل التشابكات المالية بين الجهات العامة ومنح وزارة المالية صلاحيات لتسوية الديون المتبادلة.
  • القانون رقم “25” لعام 2017، الذي منح إعفاءات من الفوائد والغرامات عند تسديد الضرائب والرسوم المتراكمة.
  • القانون الصادر عام 2023، لحل التشابكات وتسديد بعض السلف الممنوحة للجهات العامة، بهدف الوصول إلى قوائم مالية صحيحة وتسريع تنفيذ المشاريع.

كما أصدرت رئاسة الجمهورية الحالية، المرسوم رقم “275” لعام 2025، القاضي بإعفاء المكلفين بضريبة دخل الأرباح الحقيقية والضرائب والرسوم المالية المباشرة الأخرى، ورسم الإنفاق الاستهلاكي ورسم الطابع المالي وإضافاتها العائدة لأعوام 2024 وما قبل من كامل الفوائد والجزاءات والغرامات.

التشابكات المالية في سوريا ليست مجرد أرقام متراكمة، بل هي إرث ثقيل من الفساد الإداري والمالي، الأمر الذي يحتم على الحكومة الانتقالية معالجة هذا الملف من خلال إصلاح تشريعي شامل، وهيكلة مالية جذرية، تعيد الثقة بالمالية العامة، وتفتح الطريق أمام الاستثمارات الحكومية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق