عنب بلدي – كريستينا الشماس
لم تكن “الجيرة” في سوريا يومًا مجرد علاقة مكانية تربط بين بيوت متجاورة، بل شكلت على الدوام إحدى الركائز غير المكتوبة للعلاقات الاجتماعية، حيث تداخلت مع مفاهيم التضامن، والمسؤولية المشتركة، والشعور بالانتماء.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وما تبعها من نزوح وتهجير واسعين، خرج مفهوم “الجيرة” من إطاره التقليدي، ليتحول إلى ظاهرة اجتماعية عابرة للمناطق والمحافظات، ومتجاوزة للاختلافات الدينية والطائفية.
فعلى مدار 14 عامًا، وجد ملايين السوريين أنفسهم غرباء في مدن وقرى جديدة، لكنهم لم يكونوا وحدهم، وفي كثير من الحالات، شكلت “الجيرة” بديلًا عن العائلة الغائبة، وشبكة أمان اجتماعية في ظل غياب مؤسسات الدولة وتراجع الدور الإغاثي المنظم.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير كيف تحولت “الجيرة” إلى طابع يميز المجتمع السوري خلال سنوات الحرب، وكيف أسهمت في الحفاظ على قدر من التماسك الاجتماعي، رغم كل عوامل التفكك.
“الجيرة” مساحة أمان في زمن النزوح
مع موجات النزوح المتتالية، لم يعد السوري يختار جيرانه، بل فرضت الجغرافيا الجديدة هذا الواقع، إلا أن العلاقة التي نشأت بين السكان الأصليين والنازحين تجاوزت في كثير من المناطق حدود الاستضافة المؤقتة، لتتحول إلى شراكة حياتية يومية.
يتحدث سعيد رزق، أحد سكان منطقة صحنايا بريف دمشق، لعنب بلدي، كيف استقبلت حارته عشرات العائلات القادمة من مدينة داريا المجاورة لصحنايا، والتي تعرضت لقصف ممنهج من قبل النظام السابق، أدى إلى نزوح الأهالي منها عام 2013.
لم تكن المساعدات متوفرة، وكانت الموارد شحيحة، لكن الجيران تقاسموا الخبز والماء، وتناوبوا على تقديم ما يستطيعون، بحسب سعيد.
قال سعيد، إنه مع الوقت، لم تعد العائلات تُعرف بحسب مناطقها الأصلية، بل أصبحت جزءًا من النسيج المحلي.
تروي جاهدة قرطومة، وهي سيدة نزحت من حي جوبر بدمشق، كيف وجدت نفسها مضطرة لمغادرة منزلها تحت القصف، دون أن تتمكن من إخراج أي من أثاث منزلها أو مقتنياتها الشخصية.
قالت جاهدة، إن الخروج كان مفاجئًا وقسريًا، ولم يكن لديها معيل أو مصدر دخل ثابت يعينها على بدء حياة جديدة في مكان آخر.
بعد النزوح، استقرت جاهدة في منطقة الدويلعة بدمشق، حيث واجهت في الأيام الأولى صعوبات كبيرة في تأمين المسكن ومتطلبات الحياة الأساسية، مضيفة أنها وصلت إلى الحي دون أي تجهيزات منزلية، وبلا قدرة مادية تتيح لها استئجار منزل بشكل طبيعي، في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
وأضافت أن الدعم الذي تلقته لم يأتِ من جهات رسمية أو منظمات، بل من أهالي الحي أنفسهم، فقد استقبلتها سيدة من مدينة حمص، كانت تقيم في الدويلعة، وعرضت عليها استئجار منزل بمبلغ مخفض، مراعية ظروفها المعيشية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ قدمت لها جزءًا من فرش منزلها، وساعدتها على تأمين الحد الأدنى من متطلبات السكن.
مع مرور الوقت، تطورت العلاقة بين السيدتين من علاقة “جيرة” إلى ما يشبه علاقة الأخوّة، بحسب جاهدة، التي قالت إن هذا الدعم المعنوي كان له أثر بالغ في قدرتها على التكيف مع واقع النزوح.
“الجيرة” تتجاوز الانتماءات الطائفية والمناطقية
في بلد تعددي كسوريا، شكلت الانقسامات الطائفية أحد أخطر تداعيات الحرب، إلا أن “الجيرة”، في كثير من الأحيان، لعبت دورًا معاكسًا، إذ أعادت التأكيد على العلاقات اليومية بوصفها أقوى من الخطابات السياسية والتحريضية.
في مدينة جرمانا المختلطة سكانيًا، تحدث محمد البري، الذي لجأ إليها بعد نزوحه مع عائلته من دير الزور، أن سنوات الحرب لم تغير طبيعة العلاقة بين الجيران، رغم اختلاف خلفياتهم الدينية والمناطقية.
وأشار إلى أن الخوف المشترك، والحاجة المتبادلة، جعلا الجميع أكثر تمسكًا بالعلاقات القائمة.
“وجدت دعمًا غير مشروط من الجيران، الذين ساعدوني في إيجاد عمل، وتأمين مستلزمات الحياة الأساسية، وتسجيل أطفالي في المدارس، ومع مرور الوقت، أصبحت العلاقة قائمة على الثقة المتبادلة، بعيدًا عن أي تصنيفات”، قال محمد.
تكافل مجتمعي
فقد كثير من السوريين أفرادًا من عائلاتهم خلال سنوات الحرب، سواء بالقتل أو الاعتقال أو الهجرة، ما ترك فراغًا اجتماعيًا ونفسيًا، خاصة لدى كبار السن الذين وجدوا أنفسهم وحيدين بعد سنوات من الاعتماد على شبكة الأسرة الممتدة
فقدت فاتن الحسين، سيدة مسنة نزحت من منطقة المليحة في ريف دمشق، أبناءها الثلاثة بين الهجرة القسرية والاعتقال، لتجد نفسها فجأة دون سند عائلي مباشر، وفي بيئة جديدة لا تعرف فيها أحدًا.
استقرت فاتن في حي الطبالة بدمشق، حيث بدأت مرحلة مختلفة من حياتها، اتسمت بالعزلة في بداياتها، والخوف من المستقبل، وعدم القدرة على تلبية احتياجاتها اليومية بمفردها.
تروي فاتن أن الأيام الأولى كانت الأصعب، إذ واجهت صعوبة في التأقلم مع فكرة العيش وحدها، بعد أن كانت محاطة بأبنائها، ومع مرور الوقت، بدأ الجيران يلعبون دورًا أساسيًا في حياتها اليومية، من خلال زيارات منتظمة للاطمئنان عليها، ومساعدتها في تأمين احتياجاتها الأساسية، ومرافقتها في مراجعاتها الطبية، إلى جانب مشاركتها تفاصيل بسيطة من حياتهم اليومية، كسؤالها عن صحتها أو دعوتها لمشاركتهم الطعام.
وأشارت إلى أن هذا الدعم جاء بشكل تلقائي، مدفوعًا بإحساس جماعي بالمسؤولية تجاه شخص فقد عائلته ويعيش ظروفًا قاسية.
ومع الوقت، تحولت العلاقة مع جيرانها إلى ما يشبه علاقة العائلة البديلة، فأصبحت تشعر بأنها جزء من محيط اجتماعي يوفر لها الأمان والدعم.
اختتمت فاتن حديثها لعنب بلدي بالقول، “خسرت أبنائي، شعور الوحدة كان يقتلني كل يوم، لكن الجيرة ساعدتني بالتأقلم على طبيعة حياتي الجديدة ومنحتني دافعًا للاستمرار”.








0 تعليق