سوريا ولبنان.. خطى متباينة نحو علاقة ما بعد “الوصاية”

عنب بلدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عنب بلدي – شعبان شاميه

منذ التحول الكبير الذي شهدته سوريا مع سقوط النظام السابق، دخلت العلاقات اللبنانية- السورية مرحلة غير مسبوقة من حيث الإمكانات المتاحة، لا من حيث النتائج المحققة.

التحول لم يقتصر على تبدل الوجوه في دمشق، بل طال الفلسفة السياسية التي تحكم مقاربة سوريا لجوارها، وفي مقدمتهم لبنان، الذي لطالما دفع ثمن اختلال هذه العلاقة واستخدامه كساحة نفوذ وتصفية حسابات، وفق ما قاله الباحث والصحفي اللبناني صهيب جوهر، في حديث إلى عنب بلدي.

ويرى جوهر أن دمشق بقيادة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، تقدم اليوم نموذجًا مختلفًا في التعاطي مع لبنان، يقوم على الفصل بين الماضي والحاضر، وعلى بناء علاقة قائمة على السيادة المتبادلة والمصالح المشتركة.

هذا التوجه، وفق جوهر، لا يعبّر عنه فقط خطاب الشرع في العلن، بل تؤكده سلسلة خطوات عملية، أبرزها الانفتاح السياسي المباشر على المسؤولين اللبنانيين، من دون وسطاء أمنيين أو قنوات موازية، في سابقة لم تعرفها العلاقة منذ عقود.

في هذا السياق، جاءت زيارة نائب رئيس الحكومة، طارق متري، إلى دمشق لتشكل اختبارًا عمليًا لهذا المسار الجديد، واللقاءات التي عقدها متري مع الرئيس الشرع ووزيري الخارجية والعدل لم تكن محصورة في المجاملات الدبلوماسية، بل تناولت الملفات الثقيلة التي لطالما شكّلت مصدر توتر بين البلدين، أضاف الصحفي اللبناني.

وتابع أن هذه الزيارة أعادت تثبيت مناخ سياسي إيجابي سبق أن بدأ مع زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت، وما تبعها من لقاءات مباشرة بين رئيسي البلدين واتصالات منتظمة، لا سيما فيما يتعلق بالحدود الشرقية والملفات الأمنية الحساسة.

ما يميز هذه المرحلة، بحسب جوهر، أن البيئة السياسية العامة باتت مهيأة نظريًا لتحقيق اختراقات حقيقية، فالحكومتان في بيروت ودمشق تتقاطعان في توجهاتهما الإقليمية، وتبتعدان عن منطق المحاور الصدامية، وتسعيان إلى إعادة التموضع عربيًا ودوليًا.

ولفت جوهر إلى أن التعاون الحدودي، الذي لطالما كان نقطة ضعف في العلاقة، يشهد تقدمًا ملحوظًا برعاية سعودية، تُرجم باتفاقات أمنية ولقاءات مباشرة بين المؤسستين العسكريتين في البلدين.

أما ملف اللاجئين فقد دخل مسارًا عمليًا بعد إطلاق برنامج العودة الطوعية، مع أرقام عودة كانت حتى وقت قريب خارج الحسابات السياسية الواقعية، قال جوهر.

اللافت في المقاربة السورية الجديدة تجاه لبنان، بحسب جوهر، أنها تبتعد بوضوح عن إحدى أكثر الممارسات التي وسمت “مرحلة الأسدين”، والمتمثلة في فتح الأبواب أمام الزعامات والقيادات والشخصيات السياسية خارج إطار الدولة، واستخدام هذه القنوات لتجاوز المؤسسات الرسمية أو تطويع القرار اللبناني من الداخل.

تناقض بين العرض السوري والانكفاء اللبناني

المشهد الإيجابي، وفق جوهر، يصطدم بواقع لبناني داخلي شديد التعقيد، فالتقدم البطيء لا يبدو ناتجًا عن غياب نية سورية أو تردد سياسي في دمشق، بقدر ما يعكس عجز الدولة اللبنانية عن اتخاذ قرارات واضحة في ملفات لا تزال تُدار بمنطق التوازنات الطائفية، والخشية من ردود الفعل الداخلية، في تناقض يشكل اليوم جوهر الإشكالية في العلاقة الثنائية.

وقال جوهر، إن هذا الخلل يتجلى بأوضح صوره في ملف الموقوفين والمحكومين السوريين في السجون اللبنانية، معتبرًا أن هذا الملف يعد بالنسبة إلى الحكم السوري الجديد اختبارًا لنيات لبنان الفعلية في طي صفحة الماضي، وليس مجرد قضية قانونية أو إجرائية.

وقد أبدت دمشق استعدادًا صريحًا للتعاون، بما في ذلك توقيع اتفاق قضائي يأخذ في الاعتبار كل التحفظات اللبنانية، ويستثني القضايا الحساسة المرتبطة بالإرهاب أو الجرائم الكبرى.

المرونة السورية تصطدم بحسابات لبنانية داخلية، يتداخل فيها الخوف الطائفي مع الاستثمار السياسي، ومع ضغوط قوى نافذة لا ترى مصلحة بفتح هذا الملف في هذه المرحلة، تابع جوهر.

وفي قضايا شديدة الحساسية مثل مزارع شبعا، يرى جوهر أن الرئيس الشرع يعتمد خطابًا واقعيًا يقر بتعقيدات الترسيم وارتباطه بعوامل إقليمية ودولية، ولا سيما الوجود الإسرائيلي، لكنه في الوقت نفسه لا يتنصل من المبدأ السياسي القائل بلبنانية المزارع.

هذا “التوازن في الخطاب”، بحسب جوهر، يعكس رغبة سورية في نزع الذرائع التي استخدمت سابقًا لتبرير استمرار السلاح خارج الدولة اللبنانية، من دون الدخول في اشتباكات سياسية غير منتجة.

كذلك يبرز ملف فلول النظام السابق الموجودين في لبنان كعامل صامت في العلاقة، فدمشق تنظر بريبة إلى وجود ضباط ومسؤولين سابقين متورطين بانتهاكات جسيمة، جرى تأمين خروجهم إلى لبنان وحمايتهم سياسيًا وأمنيًا.

وعلى الرغم من أن هذا الملف لا يُطرح علنًا كشرط سياسي، وفق جوهر، فإن معالجته بجدية من الجانب اللبناني ستشكل رسالة ثقة إضافية للحكم السوري الجديد، وتؤكد أن بيروت مستعدة فعلًا لقطع الصلة مع مرحلة انتهت.

الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي الرئيس اللبناني جوزيف عون على هامش القمة العربية الإسلامية الطارئة المنعقدة في الدوحة - 15 أيلول 2025 (رئاسة الجمهورية العربية السورية)

الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي الرئيس اللبناني جوزيف عون على هامش القمة العربية الإسلامية الطارئة المنعقدة في الدوحة – 15 أيلول 2025 (رئاسة الجمهورية العربية السورية)

القبضة الإيرانية في لبنان.. أبرز التحديات

يرى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي اللبناني، الدكتور زياد علوش، في حديث إلى عنب بلدي، أنه بات من الضروري معالجة الملفات اللبنانية- السورية لأهمية انعكاساتها السياسية والأمنية والاقتصادية، وبالتالي التنموية العامة، خصوصًا مع الاكتشافات الهائلة للطاقة الهيدروكربونية (النفط والغاز) في الساحل الشرقي للمتوسط، إذ تدفع القوى الإقليمية والدولية بقوة لتكثيف الاستثمارات في سوريا ولبنان، وتسعى لخلق ظروف الاستقرار المناسبة.

وبحسب علوش، فإن أبرز التحديات التي تعوق هذه الخطوة، تتمثل بقبضة طهران الموجودة في الملف اللبناني وإن تراخت نسبيًا بفعل المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة، إلا أنها ستحاول العرقلة في الملف السوري.

وساطات فرنسية وسعودية لترسيم الحدود

التحدي الآخر هو موضوع الترسيم، قال علوش، مشيرًا إلى أن لبنان منذ عام 1923 لم يرسّم الحدود لعدم وجود خرائط تاريخية واقعية واضحة ومثبتة أو ترسيم سابق عبر الأمم المتحدة، إذ إن مرسوم 1920 ذو طابع وصفي جغرافي وليس تحديدًا طبوغرافيًا ومساحيًا، إضافة إلى التداخل الجغرافي والديموغرافي، متحدثًا عن ورشة حالية في الخارجية اللبنانية لتأمين الأصول القانونية والوثائق والمستندات.

ولفت علوش إلى الحديث عن خرائط بريطانية وفرنسية جرى تسليمها إلى لبنان بهذا الخصوص مؤخرًا، إضافة إلى معطيات عن وساطة فرنسية، مؤكدًا أن الملف اللبناني السوري يحظى برعاية سعودية واضحة في إطار رؤية 2030 السعودية للشرق الأوسط، معتبرًا أن سوريا أعلنت انسجامها مع هذا التوجه، فيما “لا يزال لبنان يحاول شق طريقه بصعوبة من شرنقة الدور الإيراني”.

تحفظات سورية على ملف تسليم السجناء

لم تحقق زيارة الوفد القضائي اللبناني إلى دمشق، مؤخرًا، النتائج المرجوة فيما يتعلق بالتوصل إلى معاهدة قضائية جديدة تنظم آلية تسليم السجناء السوريين الموقوفين في لبنان، بعدما ظهر تباين واسع في مقاربة الطرفين لبنود مشروع الاتفاقية، وهناك رغبة سورية في استكمال محاكمة الموقوفين لديها، أو تنفيذ المحكومين لعقوباتهم داخل أراضيها، بحسب علوش.

ويقدّر عدد الموقوفين السوريين في لبنان بما بين 2200 و2600 شخص، وفق المحلل السياسي اللبناني، بينهم حوالي 200 إلى 220 موقوفًا من معتقلي الرأي.

ويوضح أن مشروع الاتفاقية يقتصر على المحكومين، ولا يشمل من لا يزالون يخضعون للمحاكمة، لأن تسليم الموقوفين يحتاج إلى قانون يصدر عن مجلس النواب اللبناني، وهو غير متاح حاليًا.

أبرز التحفظات السورية أن البند الأول ينص على أنه “يجوز للدولة المسلِّمة (لبنان) أن ترفض تسليم أي محكوم أو موقوف من دون أن تقدّم تبريرًا، وذلك لأسباب خاصة بها”، هذا الأمر يعطي الدولة اللبنانية الحق بعدم تسليم أي سجين سوري، من دون أن يسألها أحد عن المسوغات القانونية لذلك.

أما البند الآخر الأكثر حساسية بالنسبة للسوريين، بحسب علوش، هو في المادة “10” من الاتفاقية، التي أرادها لبنان مطابقة للاتفاقية الموقعة بينه وبين باكستان.

وتنص هذه المادة على أنه “لا يحق للدولة المسلَّم إليها (سوريا) أن تمنح عفوًا لأي محكوم أو موقوف تتسلّمه من لبنان”، في حين أن الاتفاقية مع باكستان لا تحرم الأخيرة حق منح العفو لمواطنيها الذين تستعيدهم من لبنان.

وأشار علوش إلى أن دمشق أبلغت الوفد اللبناني بأنها “لن تطلب استرداد أي شخص يثبت تورطه في قتل جنود لبنانيين أو تنفيذ تفجيرات تسببت في سقوط مدنيين”.

وبحسب علوش، تعتبر دمشق أن المدخل الإلزامي لعلاقات سليمة وقوية مع بيروت تبدأ بحل نهائي لملف السجناء السوريين في لبنان، خصوصًا أن “أغلب السوريين المحكومين أو الموقوفين بجرائم إرهابية كانوا في صفوف الثورة السورية، وأن اعتقالهم ومحاكمتهم في لبنان، كان بسبب خياراتهم السياسية”.

انعكاسات القضايا الداخلية العالقة في لبنان

بالنسبة لتأثير الملفات الداخلية في لبنان على المقاربات السورية- اللبنانية، أكد علوش أنها مهمة جدًا، إذ تبدأ بملف تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية بنزع السلاح وحصرية السيادة وتطبيق القرارات الدولية لا سيما “1701” و”1559″، مما يعني تمكين الحكومة اللبنانية دون غيرها من القدرة على رسم السياستين الدفاعية والخارجية، وهذا يشمل العلاقة مع سوريا.

يُضاف إلى ذلك إجراء الانتخابات النيابية المقبلة، والتعويل على تكوين سلطات جديدة تتفهم بشكل واضح انتصار الثورة السورية، بما يستلزم من لبنان إعادة قراءة سياسية وقضائية وأمنية وإعلامية وغير ذلك، يختم المحلل السياسي.

وأدى انهيار النظام السوري السابق إلى اهتزاز منظومة النفوذ الإقليمي التي شكّل لبنان أحد أبرز امتداداتها خلال عقدين من الزمن، من خلال مثلث طهران- دمشق- بيروت، فعصفت التحولات العميقة في صلب المشهد في كلا البلدين بشكل متتابع، واستفادت كل من دمشق وبيروت من المناخ الإقليمي لتكريس مشهد سياسي جديد يتناغم والمؤشرات السائدة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق