سلوك المدينة - كيف تفكر المدن أثناء الحركة؟

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سلوك المدينة - كيف تفكر المدن أثناء الحركة؟, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 11:37 مساءً

عندما ننظر إلى المدينة من الأعلى، تبدو كما لو أنها كائن حي لا يتوقف عن الحركة؛ سيارات تنساب في مسارات متعرجة، موجات من المشاة تعبر الشوارع، وتحولات دقيقة تربط بين آلاف النقاط التي تشكل الحياة اليومية. هذا المشهد المزدحم يخفي وراءه ما يمكن تسميته بـ«السلوك الحضري»؛ ذلك الإيقاع الذي تكشف من خلاله المدينة عن طريقة تفكيرها. فالحركة ليست مجرد انتقال من موقع إلى آخر، بل هي تعبير عملي عن منطق المدينة الداخلي، وهو ما توضحه منهجية WSMA عندما تجعل «منطق المكان» جزءا أصيلا من فهم السلوك الحضري.

فالمدينة، وإن لم تمتلك عقلا، تظهر من خلال حركتها نمطا يشبه التفكير. شكلها في الصباح غير شكلها في المساء؛ نقاط تتكدس باستمرار، وأخرى تهدأ، وتغيرات طفيفة في البيئة قد تعيد تشكيل المشهد بالكامل. هذه الظاهرة تكشف أن المدن تمتلك عادات تكررها كل يوم، تماما كما يفعل الإنسان عندما يبدأ صباحه، وينظم يومه، ويتفاعل مع تفاصيله. ومن هنا يبدأ فهم «عقل المدينة».

ولا يحدث الازدحام في مدينة كبيرة لأن الناس قرروا ببساطة الخروج في التوقيت نفسه، بل لأن المدينة صممت بطريقة تدفع الجميع نحو هذا الإيقاع. عندما تتركز المدارس في نطاق ضيق، أو تحشد الوظائف في مركز واحد، أو توضع الخدمات في مواقع محدودة، فإن المدينة تكون قد اتخذت قرارا مكانيا يصنع هذا السلوك.

وتظهر المعادلة الفكرية (البيانات × المكان × السلوك × القيم = القرار) أن السلوك ليس نتاجا بشريا فقط، بل نتيجة مباشرة لعلاقة مع المكان. لكن قراءة هذا السلوك ليست مهمة العين المجردة؛ فهي تحتاج إلى أدوات تكشف العلاقات التي لا ترى. وهنا يأتي الدور المحوري للهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية GEOSA، التي توفر البنية التحتية الجيومكانية التي تبنى عليها كل تحليلات السلوك الحضري. فمن دون خرائط دقيقة، وطبقات موحدة، وبيانات موثوقة، تصبح المدينة نصا بلا ترجمة، وسلوكا بلا تفسير.ودون GEOSA، تفقد الجهات المعنية «لغة المكان» التي تمكنها من فهم المسارات الخفية التي تتحرك بها المدينة.

فالناس لا يختارون الطرق بدافع الرغبة وحدها، بل طبقا لما تسمح به المدينة. الطريق الذي يبدو أوسع وأسرع يتحول سريعا إلى خيار جماعي؛ ليس لأن السائقين فضلوا هذا المسار، بل لأن المدينة قدمت لهم ذلك الخيار. ومخرج حي ضيق يصبح نقطة اختناق يومية، لا لأن عدد السكان ازداد فجأة، بل لأن البنية المكانية رسمت هذا السيناريو مسبقا. وهنا يتجلى دور GEOSA مجددا، لأنها التنظيم الوحيد الذي يوحد قواعد المكان ويمنح الجهات الحكومية خريطة موثوقة لفهم أثر التصميم الحضري على السلوك.

وتتعامل المدن مع الزمن بطريقة تشبه تعامل الإنسان مع يومه. فخلال الصباح، تتحرك المدينة تحت ضغط المدارس والوظائف، وخلال المساء تصبح فضاء اجتماعيا-اقتصاديا يتوزع فيه الناس بين الترفيه والتسوق والنشاطات اليومية. هذا الإيقاع الحضري لا يمكن تفسيره إلا بتحليل جيومكاني يكشف نقاط الجذب، ومناطق الضغط، والأوقات التي تتوسع فيها الحركة أو تنكمش. وكل تحليل من هذا النوع يعتمد في دقته على القواعد التي تبنيها GEOSA، باعتبارها الحارس الوطني للمكان ومرجع الخرائط الموحدة.

وما يجعل المدن الذكية أكثر قدرة على التكيف ليس حجم تقنياتها، بل قدرتها على قراءة نفسها يوميا. فإذا تغير موقع مرفق، أو أضيف مخرج، أو تحركت نقطة خدمة، فإن السلوك الحضري يتغير مباشرة. المدن التي تمتلك تحليلا مكانيا حيا - مدعوما بتوأم رقمي - تستطيع رؤية هذه التغيرات لحظة بلحظة. أما المدن التي لا تستند إلى بيانات مكانية موحدة فستظل أسيرة ردود الفعل، وتصل متأخرة دائما خطوة واحدة.

وفي المحصلة، عندما ندرس حركة المدينة، نحن لا نراقب الشوارع، بل نقرأ طريقة تفكيرها. وعندما نفهم سلوكها، نصبح قادرين على بناء حلول أكثر عدالة وإنسانية. المدينة التي تعرف كيف تفكر، هي المدينة التي تستطيع أن تتنبأ، وتتكيف، وتتعلم، وكل ذلك يبدأ من المكان، ومن القدرة على قراءته بدقة؛ تلك القدرة التي تمنحها GEOSA للمدن السعودية.

وفي المقال القادم، ننتقل من فهم السلوك إلى «العين التي ترى»: كيف تصنع الخرائط القرارات؟وكيف تمكن البنية الجيومكانية الوطنية المدن من التنبؤ بالمستقبل قبل أن يظهر على الطرق؟

أخبار ذات صلة

0 تعليق