نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فائض النخب... تحولات الوعي ومأزق الصورة الاجتماعية, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 11:37 مساءً
لم يعد السؤال اليوم: من هو المثقف؟
بل كيف اتسع توصيف «النخبة» إلى حد فقدان معناها؟
يشهد العالم العربي ظاهرة يمكن توصيفها بـ(فائض النخب)، حيث تتكاثر الألقاب والرموز والمرجعيات المعلنة، في مقابل محدودية واضحة في الإنتاج المعرفي أو الأثر القيمي. إنها مفارقة تكشف تحولا في بنية الوعي الاجتماعي، حين تتقدم الوجاهة على المنجز، والحضور على الفعل.
ففي السابق، كانت النخبة تعرف بما تنتجه من فكر أو مشروع أو خدمة عامة، أما اليوم فقد تغير مصدر الشرعية؛ إذ لم تعد المكانة تكتسب عبر مؤسسات المعرفة والعمل العام، بل عبر منصات العرض الذاتي، ومع هذا التحول، انتقلت النخبوية من كونها نتيجة للجدارة إلى كونها نتاجا لإدارة الصورة.
وقد أسهمت المنصات الرقمية في هذا التحول، إذ منحت الجميع إمكانية الظهور، فاختلط التميز بالتمثيل، والعلم بالحضور، والإنجاز بالاستمرار في المشهد، ولم تعد القيمة تقاس بعمق الأثر، بل بقدرة صاحبها على البقاء مرئيا، حتى لو خلا هذا الحضور من إضافة حقيقية.
واجتماعيا، أعاد فائض النخب تشكيل نظام الاعتراف، فقد تراجعت المعايير التي كانت تضبط المكانة، مثل الكفاءة العلمية أو الدور المهني أو الخدمة العامة، لتحل محلها مكانة تقوم على الشهرة والانتشار. ومع هذا التحول، انفصلت النخبوية عن المسؤولية، وأصبحت أقرب إلى حالة رمزية مؤقتة تمنح وتسحب بسرعة.
وفي هذا السياق، تشكل ما يمكن تسميته بـ(مجتمع الصورة)، حيث توزع المكانة على أساس الظهور لا الفعل، وتتحول المنصات إلى فضاء يمنح الاعتراف دون اختبار، وهكذا ينتقل المجال العام من التنافس على الإنجاز إلى التنافس على جذب الانتباه.
ومن الزاوية النفسية، تعبر الظاهرة عن حاجة إنسانية أصيلة إلى الاعتراف، غير أن الإشكال يظهر حين ينفصل هذا الاعتراف عن الجدارة، فالتكرار البصري للحضور يصنع شعورا بالتميز، دون سند معرفي أو اجتماعي، ويتحول مع الوقت إلى نمط قائم على الحفاظ على الانطباع بدل تطوير الفكرة.
أما ثقافيا، فإن فائض النخب يعكس تحولا في نظام الرموز نفسه، فحين تمنح الشرعية بناء على الرمز لا المنجز، تتراجع قيمة المعنى لصالح الصورة، ويظهر تأثير هش رغم كثافة الحضور، نخب كثيرة، خطاب متشابه، وتأثير محدود.
وتتمثل النتيجة الأوسع في اضطراب معايير التميز وتآكل الثقة في المرجعيات، فحين يصبح الجميع نخبة محتملة، يفقد اللقب قيمته، ويتحول المجال العام إلى ضجيج من الأصوات المتقاربة.
ولا يمكن معالجة هذه الظاهرة بالنقد الأخلاقي أو المنع، لأنها ليست سلوكا فرديا، بل تحول في الوعي الجمعي، وما يحتاجه المجتمع هو إعادة تعريف النخبوية بوصفها مسؤولية معرفية وقيمية، لا امتيازا بصريا. فالنخبة الحقيقية هي التي تنتج الفكرة، وتتحمل تبعاتها، وتخدم المصلحة العامة.
إن فائض النخب تعبير عن زمن تتضخم فيه الصورة على حساب المضمون، ويكثر فيه الكلام أكثر من الفعل، وربما يكمن المخرج في استعادة النخبة بوصفها ضميرا فكريا، لا واجهة اجتماعية، وإعادة الاعتبار للمعرفة بوصفها أساس التأثير المستدام.













0 تعليق