مؤسسة البترول الكويتية:من إدارة الثروة إلى صناعة المستقبل.. بقلم:طارق الوزان

جريد الأنباء الكويتية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بقلم: طارق جعفر الوزان..  باحث في الشؤون النفطية والاقتصادية


في لحظة تشهد فيها المنظومة الاقتصادية العالمية إعادة تشكيل عميقة، يبرز سؤال جوهري أمام الكويت: هل نريد البقاء عند حدود تصدير الخام، أم الانخراط في اقتصاد عالمي تصنع فيه القيمة ولا تستورد؟ منذ تأسيس مؤسسة البترول الكويتية، حملت هذه المؤسسة إجابة تتجاوز مفهوم دمج الشركات النفطية أو إدارة الثروة الهيدروكربونية إلى بناء عقل اقتصادي سيادي يرى النفط منصة استراتيجية لبناء اقتصاد متنوع لا موردا ماليا عابرا. ومع تسارع التحولات التقنية والصناعية في العالم، يعود هذا السؤال بإلحاح أكبر: هل يكفي بيع النفط لضمان موقع دولة يعاد رسم دورها داخل نظام اقتصادي جديد تقوده التكنولوجيا والتحالفات الإنتاجية؟

لقد نشأت المؤسسة لتجسد فكرة تحويل النفط من مورد يباع إلى قيمة تصنع. واليوم، ومع اتساع المنافسة الآسيوية وتغير خرائط الطلب العالمي وصعود جيل كويتي يسعى لاقتصاد أكثر إنتاجية واستدامة، تتجدد فلسفة المؤسسة الأولى بوضوح أكبر: النفط ليس غاية، بل منصة لبناء اقتصاد متماسك لعقود مقبلة.

الكويت اليوم تدخل مرحلة انتقالية حقيقية.. مرحلة تعلن نهاية عصر، وتؤذن ببدء آخر.

نهاية عصر وبداية آخر

في المكاتب المطلة على الخليج العربي، تعاد صياغة عقود التصدير في آسيا، وتخضع شبكة Q8 لمرحلة تحديث شامل، وتتحول الأصول النفطية إلى أدوات تمويل استراتيجية تعيد تشكيل قدرة المؤسسة على قيادة الاقتصاد نحو الإنتاج. أصبح واضحا أن المؤسسة لم تعد جهازا تقليديا لإدارة القطاع النفطي، بل منصة سيادية تعيد تصميم الاقتصاد الوطني وفق منظور إنتاجي مرتبط بأسرع مناطق العالم نموا.

وبينما يتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي نحو شرق آسيا، تبدو المؤسسة متناغمة مع اتجاه التاريخ، حيث تعاد كتابة قواعد الصناعة والطاقة، وتفرز نماذج اقتصادية جديدة قائمة على الشراكات والتصنيع المتقدم وسلاسل القيمة العابرة للقارات.

آسيا.. حيث تصنع القيمة في القرن الحادي والعشرين

لم تعد آسيا مجرد سوق للنفط، بل أصبحت مركز التصنيع العالمي، أكثر من 70% من نمو الطلب العالمي على الطاقة والبتروكيماويات يأتي من آسيا، حيث لم يعد بيع الخام كافيا، القيمة الحقيقية اليوم هي في الشراكات التي تمتد عبر سلاسل التصنيع والتحويل.

وتتحرك إدارة التسويق العالمي بمنطق جديد يرتكز على:

٭ عقود توريد مرنة وطويلة الأجل.

٭ شراكات تكريرية وبتروكيماوية داخل آسيا.

٭ استثمارات مشتركة تمتد عبر سلاسل التوريد الصناعية.

٭ تموضع استراتيجي داخل أكثر مناطق العالم ديناميكية ونموا.

لم يعد السؤال: كم نبيع؟

بل: ما القيمة التي نصنعها من خلال البيع؟

وحين تلتقي السيولة الكويتية المستقرة مع القدرة التصنيعية الآسيوية، تتشكل معادلة اقتصادية جديدة:

السيولة الكويتية + الصناعة الآسيوية = اقتصاد إنتاجي طويل الأمد.

وهكذا يصبح «التسويق العالمي» الذراع غير المرئية للسيادة الاقتصادية الكويتية.

Q8.. هوية نفطية موحدة للكويت في الداخل والخارج

محطات الوقود ليست مجرد بنية تحتية، بل نقطة التماس اليومية بين الدولة والمجتمع. ومن هنا جاءت خطوة إعادة إدخال Q8 إلى السوق المحلي، لا كتحسين بصري، بل كرؤية مؤسسية توحد الهوية النفطية من روتردام إلى الشويخ، وتعيد بناء صورة الكويت في قطاعها الأكثر عالمية.

إعادة Q8 تعني:

٭ توحيد الهوية النفطية داخل الكويت وخارجها.

٭ نقل خبرات تشغيل أوروبية متقدمة إلى السوق المحلي.

٭ تطوير مراكز خدمات حديثة بدل المحطات التقليدية.

٭ رفع الكفاءة التشغيلية وتوحيد الممارسات.

٭ تعزيز القيمة downstream بدل الاكتفاء ببيع المنتجات.

بهذا، لا تعيد المؤسسة بناء المحطات فقط.. بل تعيد تشكيل الصورة المؤسسية للدولة بصفتها لاعبا صناعيا يمتد حضوره من أوروبا إلى الخليج.

تحويل الأصول إلى طاقة إنتاجية

تدفع المؤسسة، بالتوازي مع التحولات التجارية، نحو نموذج تمويلي متقدم يقوم على تحرير السيولة الكامنة داخل الأصول السيادية عبر نموذج Lease–Leaseback الذي تتبناه كبريات شركات الطاقة العالمية.

هذا النموذج قادر على ضخ ما بين 5 و7 مليارات دولار لدعم برنامج رأسمالي يتجاوز 65 مليار دولار يشمل:

٭ تطوير إنتاج الغاز لتعزيز أمن الطاقة.

٭ توسيع قدرات التكرير وربطها بالأسواق العالمية.

٭ تعزيز الصناعات البتروكيماوية المتقدمة.

٭ ترسيخ مكانة الكويت ضمن سلاسل القيمة العالمية للطاقة.

الفلسفة التي تقود هذا التحول واضحة:

الدولة لا تستدين لتسد عجزا.. بل تستثمر لتصنع إنتاجا.

المؤسسة التي تستعيد رسالتها.. لتقود اقتصاد الغد

وعندما تتكامل حلقات التحول - من الشراكات الآسيوية، إلى توحيد الهوية النفطية عبر Q8، إلى تحرير الأصول وتحويلها إلى طاقة إنتاجية - تستعيد مؤسسة البترول رسالتها الأولى:

ـ النمو بالتصنيع.. لا بالاستهلاك.

ـ وصناعة القيمة.. لا بيع الموارد.

ـ وبناء المستقبل.. لا انتظار الظروف.

إن انتقال الكويت من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي لن يقاس بكمية النفط التي نبيعها، بل بقدرتنا على بناء قيمة صناعية ومعرفية وسيادية فوق كل برميل. هنا تبدأ صناعة المستقبل.. وهنا تتجدد رسالة مؤسسة البترول الكويتية لعقود قادمة.

ويبقى رجال ونساء القطاع النفطي أساس هذا التحول الوطني، وصمام الأمان لاستدامة الثروة. إليهم يوجه أصدق الامتنان ـ جزاكم الله خيرا ـ لكل من يعمل بصمت من أجل رفعة الكويت.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق