نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين ما نخشاه وما نريده، كيف نضيع؟!, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 04:13 صباحاً
الخوف والطمع صفتان إنسانيتان قديمتان، تسكنان في العمق، وتظهران غالبا في لحظات القلق وعدم اليقين. الخوف يدفع الإنسان إلى الانسحاب الصامت، إلى المراقبة بدل المشاركة، وإلى حساب العواقب قبل التفكير في المعنى. والطمع، على الجانب الآخر، يدفعه إلى الاستعجال والمقارنة والرغبة في اقتناص المكاسب، حتى لو كانت صغيرة أو مؤقتة. المشكلة لا تكمن في وجودهما، بل في تحولهما إلى بوصلة للسلوك اليومي.
في بيئة العمل، لا يقتصر الخوف على غرف القيادة. نراه في موظف يختار الصمت وهو يرى خطأ يتكرر، خشية أن يحسب عليه موقف. ونراه في زميل يبالغ في الالتزام الشكلي باللوائح، لا حبا في النظام، بل هروب من المساءلة. هذا الخوف لا يصنع استقرارا حقيقيا، بل يخلق جمودا، ويضعف المبادرة، ويحول العمل إلى مساحة حذر دائم.
أما الطمع، فهو أكثر حضورا ودهاء مما نتصور، وأقل صراحة مما نحب أن نعترف به. لا يظهر فقط في المال أو المناصب، بل في الرغبة في الظهور، وفي خطف الفكرة، وفي البحث المستمر عن الاعتراف. نراه في موظف ينقل الحديث بين الزملاء ليكسب قربا، أو في شخص يسارع إلى نسبة الجهد الجماعي لنفسه. الطمع لا يهدم العلاقات والقيم دفعة واحدة، بل يفتتها بهدوء، حتى تفقد الثقة معناها، ويصبح التعاون مجرد مصلحة مؤقتة.
ولا يقف أثر الخوف والطمع عند حدهما، بل يتفرع منهما عدد كبير من السلوكيات غير السوية. فالكذب، والخداع، والتلاعب، ليست صفات مستقلة بقدر ما هي وسائل يلجأ إليها الإنسان حين يضيق عليه الخوف، أو حين يتسع داخله الطمع. من يخاف، يكذب ليحمي نفسه، ويخادع ليؤجل المواجهة، ويصمت ليبقى في المنطقة الآمنة. ومن يطمع، يبرر لنفسه التجاوز، ويعيد تعريف الصواب والخطأ بما يخدم مصلحته، حتى يصبح الخداع "ذكاء"، والكذب "حنكة"، واستغلال الآخرين "حقا مكتسبا". هنا لا يكون السلوك السيئ هو المشكلة الأولى، بل الدافع الذي يغذيه؛ فالسلوك قد يتغير شكله، لكن الخوف والطمع إن لم يواجها، سيجدان دائما طريقة أخرى للظهور، أكثر هدوءا، وأكثر ضررا.
وغالبا ما يجتمع الخوف والطمع في الشخص نفسه، يخاف أن يخسر، فيطمع أكثر. ويطمع أكثر، فيخاف أن يزاح أو ينسى. فتتحول بيئة العمل إلى دائرة مغلقة من القلق، يراقب فيها الجميع الجميع، ويقل فيها الصدق، وتضعف الروح الجماعية. لا صدامات ظاهرة، لكن هناك استنزافا نفسيا صامتا.
وهنا يبرز سؤال أعمق: لماذا يستسلم بعض الناس لهاتين الصفتين أكثر من غيرهما؟
قد تساعدنا التجربة على فهم الجذور، لكنها لا تمنحنا عذرا. صحيح أن بيئات قاسية أو غير عادلة قد تغذي الخوف وتوقظ الطمع؛ لكن هذا تشخيص لا تبرير. فالبيئة قد تفتح الباب، أما الدخول منه فهو قرار شخصي. هنا يظهر الفرق بين من تبتلى نفسه بهذه الدوافع، ومن يتخذها منهجا في التعامل مع الآخرين. كثيرون عاشوا ظروفا صعبة، ومع ذلك اختاروا النزاهة والشجاعة والإنصاف.
الخوف والطمع - بهذا المعنى - ليسا مجرد رد فعل، بل امتحان أخلاقي متكرر، أن يخاف الإنسان ثم يواجه، وأن يرغب ثم يضبط نفسه، وهذا جوهر المجاهدة؛ أن تعرف ميل النفس، ثم لا تسلم لها المقود. فالنفس حين تترك بلا محاسبة تبرر، وحين تربى على الوعي تهذب رغباتها. ولعل هذا ما يفسر قدم هذه الذنوب بقدم الإنسان، لأنها صراع دائم بين ما تريده النفس عاجلا، وما يريده الضمير آجلا.
في بيئة العمل، لا تكفي اللوائح وحدها، كما لا يكفي حسن النوايا. نحتاج إلى وعي فردي ناضج، موظف لا تحكمه المقارنة، وزميل لا تحركه الغيرة، وإنسان يدرك أن قيمته لا تقاس بما يأخذه، بل بما يضيفه. عندها فقط، تتحول بيئة العمل من مساحة تنافس قلق إلى مساحة نمو حقيقي.
يبقى الخوف والطمع اختبارين صامتين يمران على الجميع. من نجح فيهما عاش أخف قلبا، أوضح رؤية، وأكثر طمأنينة، ومن أخفق عاش كثير الحركة، قليل السكينة. فالإنسان لا يقاس بعدد ما يحققه، بل بالطريقة التي وصل بها إليه.
وما أجمل أن نعمل، ونختلف، ونسعى دون أن نكون أسرى خوف يقيدنا، أو طمع لا يشبع، بل أحرار بوعي يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وأصدق مع من حولنا.

















0 تعليق