يا محلا الفنجال

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
يا محلا الفنجال, اليوم الأربعاء 3 يوليو 2024 12:31 مساءً

لا يوجد مشروب يقدم السعادة بلمسة واحدة مثلما يفعل هذا المشروب السائل الداكن الخارق الذي يبطل تعويذات الوحدة، والحنين، والتعب، والغياب.. الحبوب المحمصة التي تنشر عبقها لتملأ جنبات الحنايا.. فتتواصل الخلايا العصبية مع المشاعر المتراخية؛ فتتحول إلى أحسن نسخة من نفسك، عندما تشربها مع أحدهم تزداد ثقة أن الشجرة الأولى للبن نبتت من أجلكم أنت ومن يشرب ويصنع ويحمل، ويحمل إليه، وذاك الممتدة يديه.. كلهم يكملون مسألة تطور المفهوم من مجرد حبوب محمصة التهمتها «غنمات» أحد الرعاة في أثيوبيا ليدب فيها النشاط ولينشط العالم بأسره بعدها.

كتب فيها الشعراء، وتعاطاها الندماء، وتعلم صنعها الخلصاء، وأصبحت لها فلسفة ونخبوية، ودلالات ثقافية واجتماعية، حتى أن هناك فنانين يرسمون لوحاتهم بحبيبات أو بقايا البن، في شكل من أشكال التضامن المغمس بالكافيين بين الفن والواقع.

انتشرت الزراعة إلى اليمن والهند والبرازيل، فحمصوها وعالجوها كأنما يعالجون أعراض التحمل ومشاعر الضجر لدى البشرية، ونشأت طقوس التحضير كفعل إنساني متعدد الأبعاد، أبعاد ذهنية تأملية، يغلب عليها البعد الفردي في التحضير والتذوق، باعتباره مشروبا مزاجيا، يرتبط بالتفضيلات ذات الطبيعة الفردانية لكل شارب، وهو ما يخالف ثقافة شرب الشاي، حيث إن للشاي بعد جماعي؛ فنقول «حفلة شاي» ولا نقول حفلة قهوة.

جاذبية القهوة تكمن في الإضافات الحميمية التي يتجلى فيها الإبداع الإنساني.. هناك «الاسبريسو والفلات وايت والكورتادو والأفوكاتو والأمريكانو»، وهناك القهوة السعودية والتركية والبيضاء.. كلها في مواجهة التفضيلات والحالة المزاجية للإنسان.

وهناك القهوة الباردة.. والقهوة المختصة «المقطرة V60» وتعرف بنكهاتها، ومذاقها الجريء، مقارنة بغيرها من أنواع القهوة، تستخدم في اعدادها المرشحات الورقية لاستخلاص القهوة في زجاجة تأخذ شكل حرف الــV مصنوعة بزاوية ميل 60 درجة.. وتعطي نتيجة لمزيج رائع خالي من الشوائب.

وهناك طقوس «التقهوي» الراقية والأصيلة للقهوة السعودية، العبق الذي لا يحتاج إلى ترجمان، واجب الضيافة الذي يرافقه محادثات عميقة... يمسك (المضيف) الأصغر سنا في المجلس الدلة باليد اليسرى، والفناجين في يده اليمنى فيصب للضيف الأهم أو الأكبر سنا أولا، العادة جرت على ألا يزيد مقدار القهوة عن ربع الفنجان.. يشرب الضيف فنجانا واحدا على الأقل ولا يزيد على ثلاثة.. وتعتبر حركة «هزّ الفنجان» عدة مرّات لغة رمزية تفيد باكتفاء الضيف ورغبته في التوقف عن احتساء القهوة.

يقابل ما سبق ازدياد الوعي بالفوائد الصحية والاجتماعية للقهوة... أكثر مما كان سابقا.. حتى على مستوى أداء الشركات، وتأثير تناولها على بيئة العمل، حيث إن تم توفير القهوة مجانا على مدار ساعات العمل فإن معدل الحصول على أيام مرضية يقل بالعموم لدى الموظفين، كما وجد أن شرب كوبين إلى أربعة أكواب من القهوة سعة 240 مل يقلل من خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني بنسبة 30%، وأمراض القلب بنسبة 5%، وخطر الإصابة بسرطانات الفم والبلعوم والحنجرة وكذلك سرطان جلد الخلايا لدى الرجال والنساء.

من المحتمل أن تكون الفوائد ناتجة عن المركبات الناتجة عن تحميص القهوة مثل الفلافونويد والليجنان وغيرها من البوليفينول، وكلها من أقوى مضادات الأكسدة المعروفة علميا.

يبلغ استهلاك القهوة العالمي حوالي 10 مليارات كجم سنويا، وتعتبر البرازيل أكبر منتج للقهوة في العالم، تليها كولومبيا وفيتنام، من المتوقع أن يزداد استهلاك القهوة بشكل كبير في السنوات القادمة، كما يتوقع أن تتسارع عمليات تطوير أنواعها وأساليب استهلاكها لتلبية الطلعات المتغيرة، وتتجه صناعتها نحو التطور والابتكار بفضل التقنيات الحديثة والاهتمام المتزايد بالاستدامة والجودة، خاصة أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من النمو الثقافي حول العالم، ترتبط بأشكال مختلفة من التعبير الاجتماعي والاحتفاء والتقاليد، مما يثبت تأثيراتها العميقة والممتدة إلى الفنون، والأدب، والموسيقى، وحتى السياسة والاقتصاد.

وعودا على تعزيز الثقافة وارتباطها بالوعي الجمعي فقد تنامت فكرة أن المقاهي مكان يجتمع فيه المثقفون للفعاليات الثقافية، وانتشرت في الآونة الأخيرة مكتبات فيها أماكن لشراء الكتب وللقراءة بهدوء مع احتساء كوب القهوة.

وقد تنبهت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» للعلاقة الوثيقة بين الثقافة والقهوة رمزا ومعنى عبر إطلاق مبادرة الشريك الأدبي في كل أنحاء المملكة العربية السعودية، ليتم تعزيز قيمة الأدب في حياة الفرد، ودعم انتشار النتاج الأدبي محليا وعالميا، بالإضافة إلى إتاحة الفرص للقطاع الخاص للمساهمة بالنهوض بالقطاع الثقافي.

وهو أكبر دليل على ضرورة اعتبار «المقهى» محطة من محطات التحفيز والابداع والابتكار المجتمعي، ولتكون زيارة المقهى لاحتساء فنجان قهوة تجربة ثرية، وتفاعلية مع القطاع الثقافي، مما يتطلب من الجمهور حسن اختيار المكان المناسب ودعم نمو هذا المفهوم الثقافي بالحضور الواعي والتواصل الاجتماعي مع الأصدقاء والمعارف للمساهمة في دعم الاقتصاد المحلي والوطني.

يقولون أن «القهوة عجوز معمّرة، لها أحفاد بررة، يقبّلون يديها كل صباح ومساء وربما بعد الغروب».. فمن منا الأكثر برا بالعجوز يا ترى؟! خاصة وأننا من حول القهوة إلى «أيقونة تجمّل الواقع.. تُلهم العقول إلى أن تتسيّد.. وتوحي إلى أن تتحكم وتؤثر على مزاج العالم».. فاشربوا القهوة ولا تزيدوا عن 3 أكواب (400 ملغم) بها كافيين يوميا.. قد يصبح البعض رباعي الدفع بقوة 30 حصانا، وقد لا تحرك شعرة في البعض الآخر.. فلكل إفراط ثمن.. وفي كل تفريط حسرة.

و«ياماحلا الفنجال مع سيحة البال.. في مجلس ما فيه نفس ثقيلة».

أخبار ذات صلة

0 تعليق